منوعات

الزهايمر: موت الذاكرة البطيء

5
(1)

تأملٌ إنساني في وجع النسيان، في الخوف من الزهايمر الذي لا يمحو الذكريات فقط، بل يطمس الوجوه والحكايات. مقال عن الذاكرة، عن الحب، وعن مقاومة الفقد بالقلم والكلمة.

حين يصبح النسيان وجعاً

أرجوك. لا تمحُ وجهي من ذاكرة أمي. لا تمحُ اسمي من شفاهها، ولا صوتي من أذنيها. لا تتركها تناديني بأسماء عابرة، أو تنظر إليّ بحيرة كأنني مجرد زائرة طيّبة.
لا تمحُ اسمي من ذاكرة أبي، ذلك الاسم الذي نطقه أول مرة بفخر، حين علّمني أن أقول “أنا” وأن أنتمي. لا تسكن عقل أبي، لا تُطفئ الأسماء التي تعب في زرعها داخله يوماً بيوم.
لا تعبث بخيوط الذاكرة كما لو كانت لعبة، فنحن لسنا ألعاباً. نحن حكايات طويلة، لا تحتمل أن تُنسى في لحظة.
يخيفني النسيان أكثر مما يخيفني الموت. الموت نهاية، نعم، لكن النسيان طمسٌ بطيء، محوٌ تدريجيٌّ للأثر، للحنين، للحياة.
الموت قرار نهائي، فصل مغلق. أما النسيان، فهو محو تدريجي، موت متقطّع.
كل يوم تفقد شيئاً صغيراً: اسم شارع، رائحة قهوة، صوت شخص، ثم في يومٍ ما، تفقد اسمك أنت.

لا تأخذني من ذاكرتهم

أخاف النسيان أكثر من الموت، فالموت نهاية، والنسيان محوٌ بلا وداع

الزهايمر ليس مرضاً فقط، هو انفصال مؤلم عن كل ما جعلنا “نحن”. أن ترى من تحبهم ولا يرونك، أن يسمعوك ولا يعرفونك. أن تصير غريباً في عيونٍ كنتَ وطنها.
الزهايمر ليس فقط مرضاً. إنه لصّ صامت، يتسلّل ليلاً، يسرق الملامح من الصور، يبعثر الذكريات في زوايا مظلمة من العقل، ثم يضحك في الخفاء، ونحن نرتّق ما تكسّر بأيدينا العاجزة.
كم من أمٍّ تنظر اليوم في وجه ابنتها ولا تجد لها اسماً؟.
كم من أبٍ ضاع الطريق إلى بيت الذاكرة؟ـ
كم من حبٍّ أصبح مجرد شعور غامض لا اسم له؟ـ
رأيت الزهايمر يسرق جدةً كانت تحفظ كل التواريخ، كل القصائد، كل وصفات الطفولة.
رأيتها تسأل عن زوجها الذي مات قبل عشر سنوات، وتبكي عليه كما لو أنه رحل للتو. تكرّرت دموعها، وكأن الحزن لم يتركها إلا ليعود أقسى.
ذاكرتها كانت شريطاً يتقطّع، يعود لبداية مجهولة، وينسى النهاية.

في وجه الزهايمر… نكتب

أنا أكتب كي أتذكّر. أكتب كي لا يُمحى شيء.
أخاف أن تُمحى وجهي من دفاتر من أحبوني.
أن تمرّ سنواتي في قلب شخص ثم ينساني وكأني لم أكن.
أكتب لأنني أؤمن بأن الكلمات مقاومة، وأن ما نكتبه قد ينجو ولو بعدنا.

أخاف على الذاكرة الجماعية أيضاً.
على الحكايات التي مات أصحابها، وبقيت معلّقة في صدور أحفادهم.
من سيحفظ صوت الوطن؟ من سيتذكر اسم الشارع الذي تغير؟
من سيحكي عن الجدّ الذي قاوم، أو عن الجارة التي كانت تُغنّي في المساء؟
أحاول أن أجمّد اللحظات، أن أربطها بكلمات، أن أضعها في جُملٍ لا يصيبها العطب. لعل الكتابة تُنقذ ما تبقّى. لعلها جدارٌ أخيرٌ في وجه النسيان.
الزهايمر… دعنا نعيش بذاكرة، ولو كانت موجعة، فالألم أهون من الفراغ، والدّمعة أحنُّ من الغياب.

دع لنا ما نحمله من ماضٍ،
دع لنا قصصنا، بصماتنا، ضحكاتنا، فوضى طفولتنا، وحكايات العائلة.
دع لنا الصور بألوانها، لا تسرق منها المعنى.
دع لنا الوجوه مألوفة، والأسماء دافئة.
فالعالم بغير ذاكرة… باردٌ، مجوّف، يشبه غرفة نُزِعت منها النوافذ.

ما مدى فائدة هذا المقال؟

انقر على نجمة لتقييمها!

متوسط ​​تقييم 5 / 5. عدد الأصوات: 1

لا توجد أصوات حتى الآن! كن أول من يضع تقييم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى